سورة الشعراء - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعاً.. العقيدة.. ملخصة في عناصرها الأساسية: توحيد الله: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} والخوف من الآخرة: {ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} والتصديق بالوحي المنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإنه لتنزيل رب العالمين؛ نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} ثم التخويف من عاقبة التكذيب، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين؛ وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. {وَسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ذلك إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين؛ وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين؛ كما ثبت من قبلهم من المؤمنين.
وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها. والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب. والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة، تعبر عن موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة، تلتقي عند هدف واحد.. ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض.
ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب، والعذاب الذي يتبع التكذيب. ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزاءهم بالنذر، وإعراضهم عن آيات الله، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به؛ مع التقول على الوحي والقرآن؛ والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين!
والسورة كلها شوط واحد مقدمتها وقصصها وتعقيبها في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار:
{طسم. تلك آيات الكتاب المبين}..
طا. سين. ميم.. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين ومنها هذه السورة مؤلفة من مثل هذه الأحرف؛ وهي في متناول المكذبين بالوحي؛ وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.
وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم؛ فيسليه ويهون عليه الأمر؛ ويستكثر ما يعانيه من أجلهم؛ وقد كان الله قادراً على أن يلوي أعناقهم كرهاً إلى الإيمان، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسراً:
{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين! إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين}.
وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه صلى الله عليه وسلم وهمه بعدم إيمانهم: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}.. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم وهم أهله وعشيرته وقومه ويضيق صدره. فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً، ولا انصرافاً عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون!
ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزاً في كل ناحية:
معجزاً في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزاً في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل؛ وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها.. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم.
معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب.
لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعاً يشهد.. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم لوهدوا إلى اتخاذه إمامهم ويلبي حاجاتهم كاملة؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجده نحن؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته؛ ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حيناً بعد حين:
{وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين}..
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحاً كريهاً؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها!
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه:
{فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}..
وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. {فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخباراً. إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخباراً فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب!
وإنهم يطلبون آية خارقة؛ ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم؛ وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير؛ وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.
{أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتا فيها من كل زوج كريم؟ إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين}..
ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض، وجعله زوجاً ذكراً وأنثى، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد.. هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة: {أو لم يروا!} والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟
والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون؛ وينبه الحس الخامد، والذهن البليد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان؛ كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي؛ يشاهد الله في بدائع صنعه، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه؛ ويتصل به في كل مخلوقاته؛ ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ويشعر أنه هو واحد من عباده، متصل بمخلوقاته، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعاً. وله دوره الخاص في هذا الكون، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها:
{أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}.


هذه الحلقة من قصة موسى عليه السلام تجيء في هذه السورة متناسقة مع موضوع السورة، ومع اتجاهها إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة؛ وإلى طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلقاه من إعراض المشركين وتكذيبهم؛ وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة وقد كان القصص إحدى وسائل التربية القرآنية في القرآن الكريم.
وقد وردت حلقات من قصة موسى عليه السلام حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه. عدا إشارات إليها في سور أخرى.
وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة، أو السياق الذي تعرض فيه، على نحو ما هي في هذه السورة؛ وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي يهدف إليه السياق.
والحلقة المعروضة هنا هي حلقة الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب، وعقاباً على ائتماره بموسى ومن معه من المؤمنين. ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد الظالمين. وفي هذا تصديق قول الله سبحانه في هذه السورة عن المشركين: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} وقوله: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} وهذه الحلقة مقسمة إلى مشاهد استعراضية، بينها فجوات بمقدار ما يسدل الستار على المشهد، ثم يرفع عن المشهد الذي يليه. وهي ظاهرة فنية ملحوظة في طريقة العرض القرآنية للقصة.
وهنا سبعة مشاهد: أولها مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى عليه السلام وربه. وثانيها مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه برسالته وآيتي العصا واليد البيضاء. وثالثها مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى. ورابعها مشهد السحرة بحضرة فرعون يطمئنون على الأجر والجزاء! وخامسها مشهد المباراة ذاته وإيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده. وسادسها مشهد ذو شقين: الشق الأول مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلاً، والثاني مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل. وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر ونهايته من انفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.
وقد عرضت هذه المشاهد في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه. ولكنها عرضت في كل موضع من الجانب الذي يناسب ذلك الموضع، وبالطريقة التي تتفق مع اتجاهه، وكان التركيز فيها على نقط معينة هنا وهناك.
ففي الأعراف مثلاً بدأ بمشهد المواجهة بين موسى وفرعون مختصراً، ومر بمشهد السحرة ونهايته سريعاً، بينما وسع في عرض مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك، وعرض آيات موسى مدة إقامته في مصر بعد المباراة قبل مشهد الغرق والنجاة.
واستطرد بعد ذلك مع بني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر في حلقات كثيرة.. واختصر هذا هنا فلم يشر إليه. بينما وسع في مشهد الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله سبحانه ووحيه إلى رسوله؛ وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي يونس بدأ بمشهد المواجهة مختصراً لم يعرض فيه آيتي العصا واليد، واختصر كذلك في مشهد المباراة. بينما توسع هنا في كليهما.
وفي سورة طه توسع في مشهد المناجاة الأول بين موسى وربه. واستطرد بعد مشهدي المواجهة والمباراة فصاحب بني إسرائيل في رحلتهم طويلاً. ولم يجاوز هنا مشهد الغرق والنجاة.
وكذلك لا نجد تكراراً في عرض القصة أبداً على كثرة ما عرضت في سور القرآن. لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض، ومشاهد كل حلقة، والجانب الذي يختار من كل مشهد، وطريقة عرضه.. كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع. متناسقة مع هذا الموضع.
{وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون. ألا يتقون؟ قال: رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، فأرسل إلى هارون. ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون. قال: كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}..
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القصص، بعدما قال له في مطلع السورة: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} ثم أخذ يقص عليه أنباء المكذبين المعرضين المستهزئين، وما حاق بهم من العذاب الأليم.
{وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون. ألا يتقون؟}..
وهذا هو المشهد الأول: مشهد التكليف بالرسالة لموسى عليه السلام وهو يبدأ بإعلان صفة القوم: {القوم الظالمين} فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال، وظلموا بني إسرائيل بما كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويعذبونهم بالسخرة والنكال.. لذلك يقدم صفتهم ثم يعينهم {قوم فرعون} ثم يعجب موسى من أمرهم ويعجب كل إنسان: {ألا يتقون؟} ألا يخشون ربهم؟ ألا يخافون مغبة ظلمهم؟ ألا يرجعون عن غيهم؟ ألا إن أمرهم لعجيب يستحق التعجيب! وكذلك كل من كان على شاكلتهم من الظالمين!
ولم يكن أمر فرعون وملئه جديداً على موسى عليه السلام فهو يعرفه، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير.
{قال: رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون}.
والظاهر من حكاية قوله عليه السلام أن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه: {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام. وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقاً.. وهكذا.. وهي حالة معروفة. فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصاً ولا اعتذاراً عن التكليف. فهارون أفصح لساناً ومن ثم هو أهدأ انفعالاً؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه كما ورد في سورة طه ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيراً ومعيناً..
وكذلك الشأن في قوله: {ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون}.. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون. حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.
فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية. الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة. والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى عليه السلام الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه.
ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف. والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة، ومرحلة الإرسال إلى هارون، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون؛ ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى، وينفي مخاوفه نفياً شديداً، في لفظة تستخدم أصلاً للردع وهو كلمة {كلا}!
{قال: كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}.
كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك. وكلا لن يقتلوك.
فأبعد هذا كله عن بالك بشدة. واذهب أنت وأخوك. {فاذهبا بآياتنا} وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء والسياق يختصرهما هنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا {إنا معكم مستمعون} فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان. ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد. فهو يرسمها في صورة الاستماع، الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه. وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة. وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
اذهبا {فأتيا فرعون} فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج: {فقولا: إنا رسول رب العالمين} وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة. فهما رسول. رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية، ويقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.
{إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}.. وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى عليه السلام في القرآن، أنه لم يكن رسولاً إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولاً إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد.
وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف. ولكن الستار يسدل. لنجدنا أمام مشهد المواجهة. وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية:
{قال ألم نُرَبِّكَ فِينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ قال: فعلتها إذن وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين. وتلك نعمه تمنها علي أن عَبَّدتَّ بني إسرائيل}.
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجه بهذه الدعوى الضخمة: {إنا رسول رب العالمين}. ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! {أن أرسل معنا بني إسرائيل}. فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته. وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي. وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً:
{قال: ألم نربك فينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت، وأنت من الكافرين}.
فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟ ولتخرج على الملك الذي نشأت فيه بيته، وتدعو إلى إله غيره؟!
وما بالك وقد لبثت فينا من عمرك سنين لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟!
ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: {وفعلت فعلتك التي فعلت}.. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها {وأنت من الكافرين} برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين!
وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه رداً قاتلاً لا يملك موسى عليه السلام معه جواباً، ولا يستطيع مقاومة. وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء الكلمات!
ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه انطلق يجيب:
{قال: فعلتها إذن وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين. وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل!}..
فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. {ففررت منكم لما خفتكم} على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة {وجعلني من المرسلين} فلست بدعاً من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل {من المرسلين}.
ثم يجيبه تهكماً بتهكم. ولكن بالحق. {وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل}.. فما كانت تربيتي في بيتك وليداً إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم:
{قال فرعون: وما رب العالمين؟}..
إنه قبحه الله يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث!
فيجيبه موسى عليه السلام بالصفة المشتملة على ربوبيته تعالى للكون المنظور كله وما فيه:
{قال: رب السماوات والأرض وما بينهما. إن كنتم موقنين}..
وهو جواب يكافئ ذلك التجاهل ويغطيه.. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك يا فرعون ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل.
وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى عليه السلام يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه.. فهو رب العالمين!.. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته: {إن كنتم موقنين} فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.
والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب:
{قال لمن حوله: ألا تستمعون؟}..
ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه!
ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.
{قال: ربكم ورب أبائكم الأولين}..
وهذه أشد مساساً بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده. لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين. فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين!
وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون:
{قال: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}..
إن رسولكم الذي أرسل إليكم.. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى عليه السلام بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.
ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين:
{قال: رب المشرق والمغرب وما بينهما. إن كنتم تعقلون}..
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم؛ ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافية إيقاظاً. وموسى عليه السلام يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير: {إن كنتم تعقلون}..
والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية.
ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عندما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:
{قال: لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}..
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد!
غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه.. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد:
{قال: أولو جئتك بشيء مبين؟}..
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إحراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى؛ ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون. ومن ثم وجد نفسه مضطراً أن يطلب منه الدليل:
{قال: فأت به إن كنت من الصادقين}..
إن كنت من الصادقين في دعواك؛ أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئاً مبيناً. فهو ما يزال يشكك في موسى، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئاً.
هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين؛ وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه:
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}..
والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلاً إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا. يدل على هذا بقوله: {فإذا هي} فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.
ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها بالا، لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فاما في مثل هذا المشهد. وموسى عليه السلام يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب.
وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها؛ فأسرع يقاومها ويدفعها؛ وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله؛ ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة:
{قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، فماذا تأمرون؟}..
وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحراً؛ فهو يصف صاحبها بأنه ساحر {عليم}. ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره}.
ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها، فيطلب أمرهم ومشورتهم: {فماذا تأمرون؟} ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون!
وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى. ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!
وأشار عليه الملأ؛ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان؛ وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول.. أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد:
{قالوا: أرجه وأخاه: وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم}..
أي أمهله وأخاه إلى أجل؛ وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى، يجمعون السحرة المهرة، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه.
وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون، والناس يجمعون للمباراة، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان؛ وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل، أو بين الإيمان والطغيان.
{فجمع السحرة لميقات يوم معلوم. وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين؟}..
وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير: {هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة؟} هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائماً تتجمع لمثل هذه الأمور، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس. وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام!
ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة؛ يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين؛ ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم!
{فلما جاء السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذن لم المقربين}..
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية؛ تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائماً في كل مكان وفي كل زمان.
وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله!
ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام:
{قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون. فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون: فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين.
قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون. قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين. قالوا: لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}..
ويبدأ المشهد هادئاً عادياً. إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه؛ وقلة أكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن، المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة، ووراءهم فرعون وملؤه، وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة.. يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون:
{قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون}..
وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: {ألقوا ما أنتم ملقون}.. بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام.
وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته:
{فألقوا حبالهم وعصيهم؛ وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}..
ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم، كما فصله في سورة الأعراف وطه، ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق، وينتهي مسارعاً إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل؛ لأن هذا هو هدف السورة الأصيل.
{فألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون}..
ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة؛ فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه؛ وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه. وهم جمع كثير. محشود من كل مكان. وموسى وحده، وليس معه إلا عصاه. ثم إذا هي تلقف ما يأفكون؛ واللقف أسرع حركة للأكل. وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلاً، ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقاً. فلا تبقي لها أثراً. ولو كان ما جاء به موسى سحراً، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها. ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلاً!
عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلاً. وهم أعرف الناس بأنه الحق:
{فألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}..
وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم، ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية. ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلاً. لقد كانت هزة رجتهم رجاً، وخضتهم خضاً؛ ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضلال، وجعلتها صافية حية خاشعة للحق، عامرة بالإيمان، في لحظات قصار. فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجداً، بغير إرادة منهم، تتحرك ألسنتهم، فتنطلق بكلمة الإيمان، في نصاعة وبيان: {آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}.
وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلاً.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» وهكذا انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين. على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه. لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج، ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول.
ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه. فالجماهير حاشدة. وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة. عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره، ويريد أن يجعل الحكم لقومه؛ وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه.. ثم هاهم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته. ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب؛ ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله، ويخلعون عنهم عبادة فرعون، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته، وانتظروا أجره، واستفتحوا بعزته!
وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش. أسطورة الألوهية، أو بنوته للآلهة كما كان شائعاً في بعض العصور وهؤلاء هم السحرة. والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها. ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها. فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشاً ولا تحمي حكماً.
إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملأ من حوله، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة؛ وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجداً معترفين منيبين.
عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال. بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى!
{قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر. فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين}..
{آمنتم له قبل أن آذن لكم}.. لم يقل آمنتم به. إنما عده استسلاماً له قبل إذنه. على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته، عارف بهدفه، مقدر لعاقبته. ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم. ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة وهم من الكهنة كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه، أو كان يختلف إليهم في المعابد.
فارتكن فرعون إلى هذه الصلة البعيدة، وقلب الأمر فبدلاً من أن يقول: إنه لتلميذكم قال: إنه لكبيركم. ليزيد الأمر ضخامة وتهويلاً في أعين الجماهير!
ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين:
{فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين}..
إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة، بلا تحرج من قلب أو ضمير.. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول.. فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور!
إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان. القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان. القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير:
{قالوا: لا ضير. إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}..
لا ضير. لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف. لا ضير في التصليب والعذاب. لا ضير في الموت والاستشهاد.. لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون.. وليكن في هذه الأرض ما يكون: فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه {أن يغفر لنا ربنا خطايانا} جزاء {أن كنا أول المؤمنين}.. وأن كنا نحن السابقين..
يا لله! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر. وإذ يفيض على الأرواح. وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس. وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين. وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد.
هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة. لا يزيد شيئاً. ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق. وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب.
فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين. وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين:
{وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون.. فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إن هؤلاء لشرذمة قليلون. وإنهم لنا لغائظون. وإنا لجميع حاذرون}..
وهنا فجوة في الوقائع والزمن لا تذكر في هذا الموضع. فقد عاش موسى وبنو إسرائيل فترة بعد المباراة، وقعت فيها الآيات الأخرى المذكورة في سورة الأعراف قبل أن يوحي الله لموسى بالرحيل بقومه. ولكن السياق هنا يطويها ليصل إلى النهاية المناسبة لموضوع السورة واتجاهها الأصيل.
لقد أوحى الله إلى موسى إذن أن يسري بعباده، وأن يرحل بهم ليلاً، بعد تدبير وتنظيم. ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات).
وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة، فأمر بما يسمى التعبئة العامة وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود، ليدرك موسى وقومه؛ ويفسد عليهم تدبيرهم؛ وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير!
وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند.
ولكن هذا الجمع قد يشي بانزعاج فرعون، وبقوة موسى ومن معه وعظم خطرهم، حتى ليحتاج الملك الإله بزعمه! إلى التعبئة العامة. ولا بد إذن من التهوين من شأن المؤمنين:
{إِن هؤلاء لشرذمة قليلون}!
ففيم إذن ذلك الاهتمام بأمرهم، والاحتشاد لهم، وهم شرذمة قليلون!
{وإنهم لنا لغائظون}..
فهم يأتون من الأفعال والأقوال ما يغيظ ويغضب ويثير!
وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال! فليقل العملاء: إن هذا لا يهم فنحن لهم بالمرصاد:
{وإنا لجميع حاذرون}..
مستيقظون لمكائدهم، محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور!
إنها حيرة الباطل المتجبر دائماً في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين!
وقبل أن يعرض المشهد الأخير، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع. ووراثة بني إسرائيل المستضعفين.
{فأخرجناهم من جنات وعيون. وكنوز ومقام كريم. كذلك، وأورثناها بني إسرائيل}..
لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكانت خرجتهم هذه هي الأخيرة. وكانت إخراجاً لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم؛ فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم! لذلك يذكر هذا المصير الأخير عقب خروجهم يقفون أثر المؤمنين. تعجيلاً بالجزاء على الظلم والبطر والبغي الوخيم.
{وأورثناها بني إسرائيل}..
ولا يعرف أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة؛ وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه. لذلك يقول المفسرون: إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه. فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.
وبعد هذا الاعتراض يجيء المشهد الحاسم الأخير:
{فأتبعوهم مشرقين. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون. قال: كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق. فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين.}..
لقد أسرى موسى بعباد الله، بوحي من الله وتدبير. فأتبعهم جنود فرعون في الصباح بمكر من فرعون وبطر. ثم ها هو ذا المشهد يقترب من نهايته. والمعركة تصل إلى ذروتها.. إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين. وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون!
وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم:
{قال أصحاب موسى: إنا لمدركون}..
وبلغ الكرب مداه، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين!
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون.


مضت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه؛ وانتهت بتلك النهاية، وفيها البشرى للمؤمنين المستضعفين المضطهدين كما كانت القلة المؤمنة يومذاك في مكة وفيه الدمار للظالمين المتجبرين الذين يشبه موقفهم موقف المشركين.
فالآن تتبعها قصة إبراهيم عليه السلام وقومه. ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتلوها على المشركين. ذلك أنهم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم، وأنهم على دينه القديم؛ وهم يشركون بالله، ويقيمون الأصنام لعبادتها في بيته الحرام، الذي بناه إبراهيم خالصاً لله.. فاتل عليهم نبأ إبراهيم ليتبينوا منه حقيقة ما يزعمون.
والقصص في هذه السورة لا يتبع الخط التاريخي، لأن العبرة وحدها هي المقصودة. فأما في سورة الأعراف مثلاً فقد كان الخط التاريخي مقصوداً، لعرض خط وراثة الأرض، وتتابع الرسل من عهد آدم عليه السلام فمضى القصص فيها يتبع خط التاريخ، منذ الهبوط من الجنة، وبدء الحياة البشرية.
والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم عليه السلام هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الآلهة المدعاة، والاتجاه بالعبادة إلى الله. والتذكير باليوم الآخر. يعقب هذا مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكر فيه العباد للآلهة، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه. كأنهم قد صاروا فعلاً إلى ما هم فيه! وهنا عبرة القصة للمشركين.. ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد، وفساد عقيدة الشرك؛ ومصير المشركين في يوم الدين. لأن التركيز متجه إليها. ويختصر ما عدا ذلك مما يفصله في سور أخرى.
وقد وردت حلقات من قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة، والأنعام، وهود، وإبراهيم، والحجر، ومريم، والأنبياء، والحج. وكانت في كل سورة مناسبة لسياقها العام. وعرض منها ما يتفق مع موضوع السورة وجوها وظلها.
عرضت في سورة البقرة حلقة بنائه للبيت هو وإسماعيل، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمناً، وإعلانه أن وراثة البيت ووراثة بانية إنما هي للمسلمين، الذين يتبعون ملته، لا لمن يدعون بالنسب وراثته. وكان هذا بصدد مخالفات بني إسرائيل، وطردهم ولعنهم، وتوريث دين إبراهيم وبيته للمسلمين..
وعرضت كذلك حلقة محاجته للملك الكافر في صفة الله الذي يحيي ويميت، والذي يأتي بالشمس من المشرق، وتحديه للملك أن يأتي بها من المغرب. فبهت الذي كفر.
كما عرضت حلقة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وأمره بذبح أربعة من الطير، وتوزيع أشلائهن على الجبال، ثم إحياؤها بين يديه، فجاءت تسعى إليه.
وهذا وذلك في معرض الحديث في السورة، عن آيات الله وقدرته على الإماتة والإحياء.
وعرضت في الأنعام حلقة بحثه عن ربه، واهتدائه إليه، بعد تأمل في النجوم والقمر والشمس، وتتبع مشاهد الكون.
وكان ذلك في السورة التي تدور حول العقيدة، وآيات الله في الكون، ودلالتها على الصانع المبدع الذي لا شريك له.
وعرضت في سورة هود حلقة تبشيره بإسحاق، وكان ذلك في سياق قصة لوط، ومرور الملائكة المكلفين تدمير قريته في طريقهم بإبراهيم. وفيها تبدو رعاية الله للمختارين من عباده وتدمير الفاسقين.
وعرضت في سورة إبراهيم حلقة دعائه بجوار البيت المحرم لمن أسكنه من ذريته بواد غير زرع؛ وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق؛ وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته، وأن يقبل دعاءه، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.. وكان سياق السورة كله هو عرض أمة الرسل؛ برسالة واحدة، هي التوحيد؛ وعرض المكذبين بأمة الرسل صفاً واحداً كذلك؛ وكأنما الرسالة شجرة ظليلة في هجير الكفر وصحراء الجحود!
وعرضت في سورة الحجر الحلقة التي عرضت في سورة هود مع شيء من التفصيل، في صدد ذكر رحمة الله بعباده المؤمنين، وعذابه للعصاة المذنبين.
وعرضت في سورة مريم حلقة دعوته في رفق لأبيه، وغلظة أبيه عليه، واعتزاله لأبيه وقومه، وهبة إسماعيل وإسحاق له. وذلك في السورة التي تعرض رعاية الله للمصطفين من عباده. وجوها كله تظلله الرحمة والود واللين.
وعرضت في سورة الأنبياء حلقة دعوته لأبيه وقومه، وزرايته على أصنامهم. وتحطيم هذه الأصنام، وإلقائه في النار التي كانت برداً وسلاماً عليه بأمر الله، ونجاته هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وذلك في صدد استعراض أمة الرسل، ورعاية الله لهذه الأمة واتجاهها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس له شريك.
ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين..
{واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟}..
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة؛ وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: {ما تعبدون؟}.
{قالوا: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين}!
وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبئ بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم!
ويأخذ إبراهيم عليه السلام يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
{قال هل يسمعونكم إذ تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون}
فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر.
فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه!
ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر؛ وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير:
{قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}..
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها!
وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلاً باعتباره دون بحث؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم على حلمه وأناته إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات!
{قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم وهم آباؤه الأقدمون!
وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون.
واستثنى إبراهيم {رب العالمين} من عدائه لما يعبدون هم وأباؤهم الأقدمون: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}..
فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبدالله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف؛ وقد يكون من عبدالله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران بإبراهيم عليه السلام في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.
ثم يأخذ إبراهيم عليه السلام في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة، والصلة الندية، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة، وفي كل حاجة وغاية.
{الذي خلقني فهو يهدين. والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين.
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}..
ونستشعر من صفة إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجه إليه في حب؛ وأنه يصفه كأنه يراه، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه.. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد..
{الذي خلقني فهو يهدين}.. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني، ووظائفي ومشاعري، وحالي ومآلي: {فهو يهدين} إليه، وإلى طريقي الذي أسلكه، وإلى نهجي الذي أسير عليه. وكأنما يحس إبراهيم عليه السلام أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين.
{والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين}.. فهي الكفالة المباشرة الحانية الراعية، الرفيقة الودود، يحس بها إبراهيم في الصحة والمرض. ويتأدب بأدب النبوة الرفيع، فلا ينسب مرضه إلى ربه وهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح إنما يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه.. ويشفيه.. ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه.
{والذي يميتني ثم يحيين}.. فهو الإيمان بأن الله هو الذي يقضي الموت، وهو الإيمان بالبعث والنشور في استسلام ورضى عميق.
{والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.. فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم عليه السلام النبي الرسول، الذي يعرف ربه هذه المعرفة، ويشعر بربه هذا الشعور، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى.. أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين. فهو لا يبرئ نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئاً، إلا أنه يطمع في فضل ربه، ويرجو في رحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة.
إنه شعور التقوى، وشعور الأدب، وشعور التحرج؛ وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.
وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة: توحيد الله رب العالمين. والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه، وينكرها المشركون.
ثم يأخذ إبراهيم الأواه المنيب في دعاء رخي مديد، يتوجه به إلى ربه في إيمان وخشوع؛
{رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}.
والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض؛ ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى؛ تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه. والذي ذاق فهو يطلب المزيد؛ والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد.
{رب هب لي حكماً}.. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى.
{وألحقني بالصالحين}.. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين!
{واجعل لي لسان صدق في الآخرين}.. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة؛ فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيراً لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول: {ربنا واجعلنا مسلمين لك. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم} وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه.
{واجعلني من ورثة جنة النعيم}.. وقد دعا ربه من قبل أن يلحقه بالصالحين، بتوفيقه إلى العمل الصالح، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون.
{واغفر لأبي إنه كان من الضالين}.. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم عليه السلام من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى؛ وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة.. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة انبتت سائر الوشائج؛ وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة.
{ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}.. ونستشف من قولة إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} مدى شعوره بهول اليوم الآخر؛ ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره.
وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}. مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض، وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزناً {يوم لا ينفع مال ولا بنون}؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض؛ وهي لا تزن شيئاً في الميزان الأخير!
وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه إبراهيم؛ فكأنما هو حاضر، ينظر إليه ويراه، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب:
{وأزلفت الجنة للمتقين. وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ فكبكبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم فيها يختصمون: تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون. فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين!}.
لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون. حيث يسمعون التقريع والتأنيب، قبل أن يكبكبوا في الجحيم.. إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله وذلك تساوق مع قصة إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون إنهم ليسألون اليوم: {أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟} أين هم {هل ينصرونكم أو ينتصرون} ثم لا يسمع منهم جواب، ولا ينتظر منهم جواب. إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب {فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون}.. كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون، وقد كبكب معهم جميع الغاوون. هم {وجنود إبليس أجمعون}. والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص.
ثم نستمع إليهم في الجحيم.. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان! وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} فلا آلهة تشفع، ولا صداقات تنفع.

1 | 2 | 3